- مذكرات ثائرة -17-
_________
كلمة واحدة كانت كافية لأن تجعل منه إنساناً آخر، لم يكن يتوقع أن يسمع منها ( أُحِبُّكْ ) ، فعندما قالتها غردَ البلبلُ على غصنٍ كان شاحباً منذ قليلٍ ... فاخضوضرْ، وتمايلت غيمةٌ عابرة، بينما تراقصت حبيبات المطر وأطلقتِ العِنان لأغنية ترتدي ثوبَ ضجيجٍ لذيذ .
هناك على طرفِ القربةِ يقبعُ منزلٌ صغير، غرفةٌ واحدة كانت مصنوعة من ( البيتون) ، بينما غرفتان مجاورتان من الطين والطوبْ، خُمُّ الدجاجِ كانَ يجاور المنزل ببضعِ دجاجاتٍ مزركشة, وديك أشقر, مطرّز بالأحمر والأبيض, يسود عليهنَّ دون أيّ اعتراض، البيض الصباحي فاكهةٌ تحضر مائدة الإفطار كل يوم، أما البقرة الموشاةُ بصبْحةٍ بيضاءَ, فقد كانت تقطنُ بعيداً ، لكن حليبها يعرِفُ الطريق إلى أفواه الأطفال دون أن يضيعَ في رحلتهِ المُعتادة .
الأب يستيقظُ باكراً، يتفقّدُ دجاجاته, يمنحها بعض القمح والشعير، كم كان يستمتعُ بمنظرها وهي تتدافع صوبَ جُعبتهِ، يضحكُ أحياناً من منظرِ الديك و هو يشقُّ طريقهُ بينها وكأنّهُ السيدُ الأوحد ... لا يلبث أن يمتطي معوله ويسيرُ بجوارِ الساقيةِ إلى حقله الصغير، أما الأمُّ فكانت تحتفلُ بتلك البقرة قبل أنْ تمدَّ يدها إلى ضِرعها الحنون .
ريثما تنتهي يكون حطب التنور قدْ نضج، تفوحُ رائحةُ الخُبز الريفي فيصرخ أبا ثراء من بعيد ...
- لا تنسيني يا امرأة ...
- حاضر ... حاضر يا أبا ثراء ... ها أنا آتيةٌ إليك .
تحمل بعض الأرغفة الطازجة مع حبات زيتونٍ وقطعة من الجبن المُعتّق, وإبريقُ شايٍ حلو المذاق .
- سلمت يداك يا زوجتي ... ما أطيب خبزك هذا اليوم ...
- ها ... ها ... فقطُ اليوم !!! ... تسلم لنا يابن عمي ... الله يقويك ...
غزلٌ صباحيٌّ فوق عيدان الحنطة التي تبتسم خلسة, مُحمّل بعبقِ الثرى, وزقرقة العصافير التي تحوم حولهما دون اكتراث .
في الغرفة الطينية مازالت ثراء وأختها ذات الخمس سنوات تغطان بنومٍ أثير ...
- إلى متى سنبقى على هذه الحال يا أم ثراء ...
- فرجُ الله قريب ... لا تفكّر كثيراً ...
- لكننا نحتاج أن نحسّن وضعنا، بالأمسِ جارنا اشترى سيارة ... ونحنُ محلك سِرْ ...
- وماذا عسانا أن نفعل ... وكأنّي اشمُّ رائحة مختلفة تنبثقُ من شفتيك ...
- نعم ... أصبت ... أفكر في رحلة سفر للعمل لمدة عامٍ, أو عامين, لتحسين أمورنا ... ( صُعقت المرأة ) ...
- وهل ستتركنا كل هذه الفترة لوحدنا يا أبا ثراء ...
قالتها, والدهشة تتبدّى على وجنتيها الحارّتين من وهج التنور ...
- سنسافر معاً ... ليلة البارحة لم أنمْ ...كنت أفكرُ بهذا الأمر ... صديقي في إيطاليا أخبرني بأن العمل هناك جيد جداً , وأنّهُ جاهز لمساعدتي في الذهاب إلى هناك . الدهشةُ لم تفارق مُحيّا أم ثراء، ولم تستطع الإجابة على ماقاله زوجها، تغيرت ملامحها كثيراً , فتركت المكان دون أن تتكلم، أو تُبدي رأيها ...
عندما انتهى بها الدرب الترابي إلى البيت, كانت ثراء تستعدُّ للذهاب إلى المدرسة، لم تكن تعلمُ شيئاً مما دار بينَ أبيها وأمّها ذاكَ الصباح ...
- اشربي كأس الحليب ياثراء ... قالت الأم والغصّةُ تكاد تخنقها ، فخرجت الكلمات مُبعثرةً كأوراقِ خريفٍ جاف الجسد ...
- أراك غريبة الأطوار يا أمي ... هل ( تخانقت ) مع أبي ... قالت وضحكتْ ...
- لا لا لا ... أريد أن أخبرك بشيء ما ياثراء لكني أخشى أن تخبري أحداً به ...
- وهل اعتدّتُ على ذلك يا أمي ... قولي بالله عليك, فأنا أكادُ أتأخر على مدرستي ...
- والدك يفكر بالسفر إلى إيطاليا للعمل هناك ... سقطَ الكأسُ من يديِّ ثراءَ دون أن تشعر, دارت بها جدران الغرفة ( هل فقدتْ صوابها) ...
- ماذا ... ماذا ... قولي بأنّكِ تمزحين يا أمّي ...
- لا والله لا أمزحْ ... ولكن أين هي هذه ال ( إيطاليا ) ...
- ماوراء البحر المتوسط ... هناك في الأفق , بعيدة من هنا ...
- اذهبي يابنتي ... وعندما تعودين نتحدثُ بالموضوع ... أشاحت عنها ...
انتعلتْ ثراءُ حقيبتها وهي شبه حالمة بما قالت أمها، على مفرقٍ قريب كانت ليلى وسعاد تنتظران قدومها، حاولتْ أن تبدو طبيعية بحيثُ لا تُشعران بأيّ تغيّر على ملامحها ...
- قلت بأنك تودين إعلامي بشيء ما ياثراء ... انتظرك منذ الأمس ...
- بنهاية الدوام سوف نلتقي بذات المكان ... تركته وانصرفت ...
هزَّ عامرٌ برأسهِ موافقاً، بينما خريرُ المياه لم يعدْ يُغرِدُ كعادته، عادت إلى زميلاتها وهي تشتعِلُ في داخلها ... أتذكرين ...
________
وليد.ع.العايش
8/4/2018م
_________
كلمة واحدة كانت كافية لأن تجعل منه إنساناً آخر، لم يكن يتوقع أن يسمع منها ( أُحِبُّكْ ) ، فعندما قالتها غردَ البلبلُ على غصنٍ كان شاحباً منذ قليلٍ ... فاخضوضرْ، وتمايلت غيمةٌ عابرة، بينما تراقصت حبيبات المطر وأطلقتِ العِنان لأغنية ترتدي ثوبَ ضجيجٍ لذيذ .
هناك على طرفِ القربةِ يقبعُ منزلٌ صغير، غرفةٌ واحدة كانت مصنوعة من ( البيتون) ، بينما غرفتان مجاورتان من الطين والطوبْ، خُمُّ الدجاجِ كانَ يجاور المنزل ببضعِ دجاجاتٍ مزركشة, وديك أشقر, مطرّز بالأحمر والأبيض, يسود عليهنَّ دون أيّ اعتراض، البيض الصباحي فاكهةٌ تحضر مائدة الإفطار كل يوم، أما البقرة الموشاةُ بصبْحةٍ بيضاءَ, فقد كانت تقطنُ بعيداً ، لكن حليبها يعرِفُ الطريق إلى أفواه الأطفال دون أن يضيعَ في رحلتهِ المُعتادة .
الأب يستيقظُ باكراً، يتفقّدُ دجاجاته, يمنحها بعض القمح والشعير، كم كان يستمتعُ بمنظرها وهي تتدافع صوبَ جُعبتهِ، يضحكُ أحياناً من منظرِ الديك و هو يشقُّ طريقهُ بينها وكأنّهُ السيدُ الأوحد ... لا يلبث أن يمتطي معوله ويسيرُ بجوارِ الساقيةِ إلى حقله الصغير، أما الأمُّ فكانت تحتفلُ بتلك البقرة قبل أنْ تمدَّ يدها إلى ضِرعها الحنون .
ريثما تنتهي يكون حطب التنور قدْ نضج، تفوحُ رائحةُ الخُبز الريفي فيصرخ أبا ثراء من بعيد ...
- لا تنسيني يا امرأة ...
- حاضر ... حاضر يا أبا ثراء ... ها أنا آتيةٌ إليك .
تحمل بعض الأرغفة الطازجة مع حبات زيتونٍ وقطعة من الجبن المُعتّق, وإبريقُ شايٍ حلو المذاق .
- سلمت يداك يا زوجتي ... ما أطيب خبزك هذا اليوم ...
- ها ... ها ... فقطُ اليوم !!! ... تسلم لنا يابن عمي ... الله يقويك ...
غزلٌ صباحيٌّ فوق عيدان الحنطة التي تبتسم خلسة, مُحمّل بعبقِ الثرى, وزقرقة العصافير التي تحوم حولهما دون اكتراث .
في الغرفة الطينية مازالت ثراء وأختها ذات الخمس سنوات تغطان بنومٍ أثير ...
- إلى متى سنبقى على هذه الحال يا أم ثراء ...
- فرجُ الله قريب ... لا تفكّر كثيراً ...
- لكننا نحتاج أن نحسّن وضعنا، بالأمسِ جارنا اشترى سيارة ... ونحنُ محلك سِرْ ...
- وماذا عسانا أن نفعل ... وكأنّي اشمُّ رائحة مختلفة تنبثقُ من شفتيك ...
- نعم ... أصبت ... أفكر في رحلة سفر للعمل لمدة عامٍ, أو عامين, لتحسين أمورنا ... ( صُعقت المرأة ) ...
- وهل ستتركنا كل هذه الفترة لوحدنا يا أبا ثراء ...
قالتها, والدهشة تتبدّى على وجنتيها الحارّتين من وهج التنور ...
- سنسافر معاً ... ليلة البارحة لم أنمْ ...كنت أفكرُ بهذا الأمر ... صديقي في إيطاليا أخبرني بأن العمل هناك جيد جداً , وأنّهُ جاهز لمساعدتي في الذهاب إلى هناك . الدهشةُ لم تفارق مُحيّا أم ثراء، ولم تستطع الإجابة على ماقاله زوجها، تغيرت ملامحها كثيراً , فتركت المكان دون أن تتكلم، أو تُبدي رأيها ...
عندما انتهى بها الدرب الترابي إلى البيت, كانت ثراء تستعدُّ للذهاب إلى المدرسة، لم تكن تعلمُ شيئاً مما دار بينَ أبيها وأمّها ذاكَ الصباح ...
- اشربي كأس الحليب ياثراء ... قالت الأم والغصّةُ تكاد تخنقها ، فخرجت الكلمات مُبعثرةً كأوراقِ خريفٍ جاف الجسد ...
- أراك غريبة الأطوار يا أمي ... هل ( تخانقت ) مع أبي ... قالت وضحكتْ ...
- لا لا لا ... أريد أن أخبرك بشيء ما ياثراء لكني أخشى أن تخبري أحداً به ...
- وهل اعتدّتُ على ذلك يا أمي ... قولي بالله عليك, فأنا أكادُ أتأخر على مدرستي ...
- والدك يفكر بالسفر إلى إيطاليا للعمل هناك ... سقطَ الكأسُ من يديِّ ثراءَ دون أن تشعر, دارت بها جدران الغرفة ( هل فقدتْ صوابها) ...
- ماذا ... ماذا ... قولي بأنّكِ تمزحين يا أمّي ...
- لا والله لا أمزحْ ... ولكن أين هي هذه ال ( إيطاليا ) ...
- ماوراء البحر المتوسط ... هناك في الأفق , بعيدة من هنا ...
- اذهبي يابنتي ... وعندما تعودين نتحدثُ بالموضوع ... أشاحت عنها ...
انتعلتْ ثراءُ حقيبتها وهي شبه حالمة بما قالت أمها، على مفرقٍ قريب كانت ليلى وسعاد تنتظران قدومها، حاولتْ أن تبدو طبيعية بحيثُ لا تُشعران بأيّ تغيّر على ملامحها ...
- قلت بأنك تودين إعلامي بشيء ما ياثراء ... انتظرك منذ الأمس ...
- بنهاية الدوام سوف نلتقي بذات المكان ... تركته وانصرفت ...
هزَّ عامرٌ برأسهِ موافقاً، بينما خريرُ المياه لم يعدْ يُغرِدُ كعادته، عادت إلى زميلاتها وهي تشتعِلُ في داخلها ... أتذكرين ...
________
وليد.ع.العايش
8/4/2018م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق