الأربعاء، 29 أغسطس 2018

البوابة الخشبية ....للأديب وليد العايش...

_ البوابةُ الخشبية _
_________
لم تكن السماء صافية في ذلك المساء، الغيوم كانت هناك، أسرعت العصفورة الشقراء للملمة أشياءها، استدعتْ صِغارها على عجلٍ ثُمّ أغلقتِ الباب .
كانت مرامُ لاتزال في عامها الخامس عشر وبضعة أشهرٍ لا تتجاوز أصابعَ القدر، تجتازُ الطريق المؤدي إلى مدرسةٍ ريفيةِ المُحيّا بهدوء، حقيبتها لم تتغير منذ ثلاث سنوات، شعرها يُعانقُ آخر ظهرها بشغف، بينما عيناها تُسابقان الريح كلّ صباح، تقتحمان ذرات الغُبار بلا خوف .
- انظري يا صديقتي ... ليلةُ البارحة أمضيتُ ساعات وأنا أُحادثُ حبيبي ...
- لقد أرسل لي صورهُ وهو في مزرعةِ أبيهِ الفخمة ... يالها من مزرعة ...
- وأنت ماذا فعلت !!! ...
ضحكتْ الفتاة حتى سمعها كل مَنْ كان في ذاكَ المكان ...
- لقد قضيتُ السهرةَ معَ فيلمٍ رومانسي ... يا إلهي ماذا فعلوا ...
- ماذا ... ماذا فعلوا ... قولي أيتها الحمقى ...
- لا ... لن أبوح لك، سأعطيكِ اسمه, والليلة تشاهدينهُ  وتقضين سهرتكِ مع حبيب القلب .
كانت مرام تُصغي لحديثِ زميلاتها، لمْ تشاركهن، فهي لا تمتلكُ جهازاً كالذي معهنّ، لحظات مرّت قبل أن يبتلعَ الصفُّ البنات الصغيرات .
في صبيحةِ يومٍ اعتيادي، ولجتْ مرامُ باب المنزل، لم تكن تدري ما ينتظرها هناك، شابٌ يافعٌ أسمر البشرة يتربّصُ قُربَ البوابة الخشبية، كان ينظرُ إليها بنهمٍ وكأنّهُ أمضى دهراً بلا طعام، تهرّبتْ من نظراته, وتابعت طريقها إلى موقف الباص، لكن إحساس ما راودها فجأة، شعرتْ بقلبها يخفقُ أكثر مما ينبغي، حضورُ الباص بترَ سلسلة أفكارها الآتية من مكانٍ ليسَ ببعيد .
مضى يومها بهدوء، الأحاديثُ لم تتبدّل، أذناها أيضاً مازالتا تصغيان فقط، وحدهُ مُعلّمُ اللُغة العربية لاحظَ بأنّها تسرَحُ بعيداً، نبهها أكثرَ من مرّة، في آخر تنبيهٍ حضرتْ دموعها وكأنّها من بحرٍ مالح0  في إياب نهاية اليوم كانت خطواتها تتعثرُ بحصىً صغيرة، عاودتها تلك الأفكار الصباحية، أكملت مسيرها وهي تُداعبُ ضفيرة متمردة من شعرها الأشقر, لتكن المفاجأة بانتظارها قُربَ البوابة الخشبية مرّةً أخرى ، الشابُ هناك أيضاً، نظراته هي ... هي التي تركتها في الصباح ...
- ماذا يريدُ مني هذا الشاب ... لا أعرفهُ ... وهو أيضاً لا يعرفني ...
كانت مرام تُحدّثُ نفسها في ذاكَ الوقت، مرّتْ من أمامهِ بخطواتٍ مُتسارعة دونَ أن تلتفتَ إليه, دقاتُ قلبها تُعاودُ العملَ بسرعة، كتبتْ على دفترها اليومي ( يالهُ منْ    أحمق ) ...
عندما كانت الشمس تلفظُ آخر ما تبقى من أنفاسها، نادتها أمها الثلاثينية الجميلة ...
- مرام ... خُذي خمسمائة ليرة واشتري لنا علبة متّة, وكيلو سكر, من بقالية جارنا أبو حامد, بيجامتها الحمراء تُظهِرُ بعض مفاتن أنوثتها الغضّة، حملتْ النقود وخرجتْ ، لم تكن بقاليةُ أبو حامد بعيدةً عن البيت، اشترت ما أوصتها أمّها ثُمّ همّتْ بالخروج ...
- لحظة ... لحظة يا مرامْ ...
ظنّت للوهلةِ الأولى بأنّ أبو حامد يُناديها, التفتت, فوجدتهُ مشغولاً عنها مع الزبائن ...
- هنا ... هنا ... يا مرام ...
قفز قلبها كطائرٍ يرتجفُ من البرد, كان الشاب يناديها، ارتبكتْ كثيراً، حملت قلبها الذي سقطَ للتوّ، حثّتْ خطاها مبتعدة عنه، تابعها حتى أوصدتْ البوابة ...
- يا إلهي ... إنّه هو نفسه, ماذا أفعلْ ... سأُخبرُ أمّي ... لا ... لا ... سوفَ تُعاقبني ... لنْ أُخبر أحداً بما حدث ...
- هلْ أنهيتِ ضبضبةَ الأغراض يا أمَّ مرام ... بعد غد سوف نغادرُ إلى القرية ... لن نعود إلى هذا البيت ....
- نعم ... نعم ... أصبح كلّ شيء جاهزاً يا أبا مرام ... تعال لنشرب كأس متة قبل أن يحينَ موعدُ الرحيل ...
- غداً سوف أذهبُ إلى المدرسة وأُنهي أوراق نقل مرام كي لا اضطرَ للعودةِ مرّة أخرى إلى هنا ...
كان الحديث كوقْعِ صاعقةٍ على تلك الفتاة التي تُعاندُ سنوات مُراهقتها الأولى، استمعتْ لكنّها لم تشارك بالحديث .
حملتْ حقيبتها وانطلقت إلى مدرستها، كانت تعلمُ بأنّهُ يومها الأخير، راقبتْ الرصيف، المارة عند الصباح هم أنفسهم، لكنّ أحدهم اختفى، إنّه الشاب الأسمر، نظراتها تبحثُ عنه، في زحمةِ المغادرين لمحتهُ على الطرفِ الآخر منَ الرصيف، عيناهُ مُعلقتان بها، قررتْ أن تنتظرَ قليلاً علّهُ يعبرُ الطريق, ويأتي، مرّ الباص الأول, لكنّهُ لمْ يأت، جاءَ الآخر، ثُمَّ تَبِعهُ الثالث، لم يتحرك الشاب من مكانه، إذنْ هو لن يأتي كي يقول لها ما يريد ...
امتطت الباص الأخير، ( يا للدهشة ) في تلكَ اللحظة كانَ الشاب يجري عابراً الشارع الزلق، نظرتْ إليه، لوّحَ بيديه، كلماتهُ لم تلدغْ مسامعها ...
- الوداع ... الوداع ...
شفتاه كانتا تنطقان بهذهِ العبارة، الباصُ كان قاسياً جداً، اِستمرَ بالمسير, أوصدتْ بابَ قلبها قبلَ أنْ تُوصِد البوابة الخشبية، غادرتْ الشمسُ مرّةً أخرى، لكنّها هذه المرّة, غادرتْ إلى الأبد ...
_______
وليد.ع.العايش
25/8/2018م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في قلوبنا باقون ..بقلم نور احمد...

//في قلوبنا باقون/// رحلو وقطعة من الفؤاد اخذوا حيطان البيت افتقدتهم فكيف قلوبنا نحن نعاهم الياسمين  والنارنج وبكى على  فراقهم ال...